يوسف عبد القاوي ./ محام
أثار تصريح السيد وزير العدل بمناسبة مناقشة مشروع القانون رقم 70.24 المعدل للظهير بمثابة قانون المتعلق بتعويض ضحايا حوادث السير التي تتسبب فيها عربات برية ذات محرك المؤرخ في 02 أكتوبر 1984، جدلا واسعا في الأوساط القانونية والمهنية، حيث جاء فيه: “توكيل محام ليست مسألة إلزامية للمواطن، هذا الأخير من حقه توكيل محام كما من حقه عدم توكيل محام إذا رأى أن لديه القدرة على الدفاع عن نفسه”.
هل يمثل هذا التصريح مجرد تأكيد لمبدأ دستوري (الحق في الدفاع والاختيار) أم أنه يعكس توجها تشريعيا يهدف إلى التضييق على دور المحامي وربما يخدم مصالح شركات التأمين، مما يؤثر على حقوق الضحايا وفعالية العدالة التعويضية؟.
إن وجوب توكيل محام في معظم المساطر أمام المحاكم العليا (النقض، والاستئناف في بعض الحالات)، وفي العديد من القضايا يكون إلزاميا، ولم يسن هذا التدبير فقط لحماية المتقاضي من تعقيدات المسطرة، بل أيضا لضمان حسن سير العدالة، فالمحامي يعتبر شريكا بل مساهما أساسيا في تحقيق العدالة، وتقوم وظيفته على تقديم مساعدة قانونية متخصصة لا يستطيع المواطن العادي توفيرها.
إن أي تقليص لمجال الإلزام بتوكيل محام يجب أن يترافق مع مراجعة شاملة لآليات المساعدة القضائية لضمان الجودة والشمول.
والقول بأن المواطن “لديه القدرة للدفاع عن نفسه” في قضايا التعويض عن حوادث السير يعد تقليلا غير مبرر وغير مقنع لعمق وتعقيد هذه القضايا، فتقدير التعويض عن الأضرار الجسدية (المادية والمعنوية) يعتمد على قواعد فنية في احتساب العجز ونسبة الإصابة، وتطبيق جداول تعويضات معقدة، وخبرة في التعامل مع مذكرات شركات التأمين والطعن في الخبرات الطبية المقدمة.
فبدون المحامي، يصبح الضحية الأعزل عرضة للتفاوض أو المساومة مع مؤسسات مالية ضخمة (شركات التأمين) تمتلك فرقا قانونية وتقنية متخصصة، مما يهدد بـفجوة كبيرة في التعويض تخل بمبدأ العدالة التعويضية.
ولا شك أن هذا التوجه، الذي كان منتظرا، في ضل سياسة تشريعية ممنهجة تروم تقزيم وتقليص مجال تدخل مؤسسة المحامي، يخدم مصالح شركات التأمين، لأن هدف هذه الشركات هو تحقيق الربح ولا يمكن أن يتأتي ذلك إلا عبر تسوية المطالبات بأقل تكلفة ممكنة وفي غياب مهني متخصص وهو المحامي.
ومن شأن تصريح السيد وزير العدل إذا ما تم اعتماد مضمونه في القانون المرتقب هو السماح لشركات التأمين بالاستفراد بالضحايا لأنه إذا اعتبر توكيل محام في هذه القضايا غير إلزامي، فإن ذلك من شأنه أيضا أن يشجع شركات التأمين على التسوية المباشرة مع الضحايا، وبالتالي فالضحايا الذين يجهلون قيمة تعويضهم الحقيقي سيكون أسهل إقناعهم من قبل شركات التأمين بقبول تعويض أقل بكثير مما يستحقونه قانونا.
ويهدف هذا التعديل أيضا إلى تبسيط الإجراءات ربما لتسريع البت في الملفات، لكن التبسيط المفرط الذي يلغي دور المحامي يمكن أن يؤدي إلى تسطيح المنازعة القانونية على حساب دقة التعويض وحقوق الضحايا.
إن الأصل هو أن جميع المساطر يجب أن تكون بواسطة محام، خاصة داخل مجتمع لا تزال نسبة الأمية داخله لا يستهان بها، وبالتالي فإن الحل الحقيقي ليس في إلغاء الإلزام بتوكيل محام، بل في تفعيل وتطوير المساعدة القضائية.
فإذا كانت الدولة تضمن حماية الحقوق، فيجب أن تتحمل مسؤوليتها في تمكين المواطن غير المقتدر من محام، وذلك لضمان المساواة في وسائل الدفاع أمام القضاء (Égalité des armes) خاصة عند مواجهة قوة مالية وقانونية لشركات التأمين.
إن تصريح وزير العدل، بالرغم من استناده إلى مبدأ حرية الاختيار، كان متوقعا ومنتظرا، أملته عليه اللوبيات التي أقر بوجودها داخل البرلمان واعتبر وجودها عاديا، ويحمل في طياته دلالات خطيرة على مستقبل مهنة المحاماة وسلامة حقوق المتقاضين، لأن في قضايا التعويض المعقدة، يعتبر المحامي ليس مجرد وكيل، بل هو ضمانة دستورية لحق الدفاع الموضوعي الفعال.
إن الإصرار على التقليص من نطاق الإلزام بتوكيل محام بشكل متعمد وممنهج، خاصة في المنازعات مع جهات قوية كشركات التأمين، سيساهم حتما وفعليا في التضييق على مجال عمل المحامين، والأهم، أنه سيؤدي إلى تآكل حقوق الضحايا والمساس بـالعدالة التعويضية لصالح مصالح اقتصادية.
إن أي إصلاح تشريعي في هذا السياق يجب أن يرتكز على تطوير نظام المساعدة القضائية ليكون شاملا وفعالا، وضرورة الإبقاء على الإلزام بتوكيل محام في هذا النوع من القضايا التي تتطلب خبرة متخصصة، كتقدير التعويضات الجسمانية لضمان التكافؤ بين الضحايا وشركات التأمين، فضلا عن أن أي تعديل لا يجب أن لا يكون على المقاس، وأن لا يمس بالحقوق المكتسبة للمحامين، وأن لا يمعن في التقليص من مجال عملهم، وأن لا يساهم في تكريس ووضع أسس العشوائية في المجال القضائي.

















